Accueil
Aimé CESAIRE
Frantz FANON
Paulette NARDAL
René MENIL
Edouard GLISSANT
Suzanne CESAIRE
Jean BERNABE
Guy CABORT MASSON
Vincent PLACOLY
Derek WALCOTT
Price MARS
Jacques ROUMAIN
Guy TIROLIEN
Jacques-Stephen ALEXIS
Sonny RUPAIRE
Georges GRATIANT
Marie VIEUX-CHAUVET
Léon-Gontran DAMAS
Firmin ANTENOR
Edouard Jacques MAUNICK
Saint-John PERSE
Maximilien LAROCHE
Aude-Emmanuelle HOAREAU
Georges MAUVOIS
Marcel MANVILLE
Daniel HONORE
Alain ANSELIN
Jacques COURSIL

السودان: انفجر الغضب، لكن السؤال القائم هو ما العمل؟

السودان: انفجر الغضب، لكن السؤال القائم هو ما العمل؟

مع السلمية التي شهد عليها كل العالم، كانت السمة البارزة في الاحتجاجات أنها الأوسع نطاقاً جغرافياً، إذ لم تُرصد منطقة لم يخرج مواطنوها في التظاهرات، أو على الأقل عبروا عن رغبتهم في التغيير، ومثلت الطبقة الوسطى وفوق الوسطى القوى الفعلية لهذه الاحتجاجات.

لماذا استمر تهاوي الجنيه السوداني على نحو غير مسبوق بعد سقوط البشير؟ لماذا انفلتت الأوضاع الأمنية في الأطراف، وطفت الصراعات القبلية على السطح؟ لماذا لم يُحاكم رموز النظام المخلوع حتى اليوم؟ لماذا تأخرت العدالة؟ ولماذا تأخر السلام.. ثم لماذا ثُرنا؟. أسئلة تقف حائرة بعد مرور عام على الحكومة الانتقالية في السودان، والتي نتجت عن شراكة سياسية بين المدنيين والعسكريين بعد الإطاحة بنظام البشير في نيسان/ أبريل 2019.

بداية الشرارة

في التاسع عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2018، حينما تفجرت احتجاجات شعبية ضد الغلاء في مدينة عطبرة التي تبعد عن الخرطوم نحو 300 كلم شمالاً، كان في حكم المؤكد أنها الثورة، لا كذب، ليس لأن الاحتجاجات غطت كل المدينة، ولا لأن الغلاء بلغ مداه وسط السودانيين، بل لأن الأفق انسدَّ تماماً أمام الحكومة، فلم يعد هناك إلا الانفجار الشعبي. طوت مدينة عطبرة يومها الملتهب بحرق مقار حزب "المؤتمر الوطني" الحاكم، وأعلنت سلطاتها حالة الطوارئ. وفي الليلة ذاتها انتقلت الشرارة إلى عدد من المدن شمال الخرطوم، وكانت الرمزية الطاغية هي حرق مقار الحزب الحاكم كتعبير صارخ عن الغضب والشعور بالظلم، وسط مخاوف من أن تنتهي هذه الشرارة التي لوحت بدرجة من العنف بمصير دموي لا يستثني أحدا.ً

عندها أخذ "تجمع المهنيين السودانيين" زمام المبادرة، وأعلن مباشرة عن أول موكب مركزي ينطلق من قلب الخرطوم في 25 من الشهر ذاته، جاهراً بشعار واحد هو "رحيل النظام". وتجمع المهنيين الذي تأسس عام 2012 من أجسام نقابية ومطلبية ومجموعات ضغط، كان بصدد تقديم مذكرة لرئاسة الجمهورية خاصة برفع الأجور، لكن احتجاجات عطبرة فرضت أجندة أكبر، وقد كانت استجابة الشارع السوداني واسعة لأول موكب ينطلق من قلب الخرطوم ينادي علناً بـ "رحيل النظام" منذ مجيء حكم الإسلاميين، قابلتها السلطات بقمع مفرط. حفزت هذه الاستجابة "تجمع المهنيين" لتنظيم موكب ثانٍ، بعد خمسة أيام، وكانت الاستجابة تتسع مع كل موكب.

كان لافتاً استجابة الشارع السوداني لجسم غير معروف، ولا يمتلك أيَّ رصيد سياسي، ولا سيرةً في العمل العام، بل بالكاد كان يعرفه المهنيون في أجسامهم المختلفة. هو جسم يظهر لأول مرة للعامة، يخاطب الناس عبر صفحة على موقع "فيسبوك"، الأكثر شعبية في السودان. لم يكن الشارع وقتها بحاجة لمعرفة من وراء "تجمع المهنيين" بقدر حاجته إلى قيادة تسوق هذه الشرارة إلى أهدافها الكلية. استثمر "تجمع المهنيين" هذه الحاجة ووظفها كما ينبغي، وحصد في وقت وجيز ثقة هائلة من الشارع السوداني بمختلف توجهاته وطبقاته، كانت هذه الثقة نتيجة طبيعية لتراكم الخيبة جراء العجز المستمر للقوى السياسية التقليدية.

وتجري على الدوام المقارنة بين ثورة كانون الأول/ ديسمبر 2018، واحتجاجات أيلول/ سبتمبر 2013 التي راح ضحيتها عشرات اليافعين، حصدتهم آلة القمع. وتنطلق المقارنة بين 2013، و2018 من مسألة غياب التنظيم والقيادة في الشارع. حينما هبت الجماهير في 2013 رفضاً لسياسات صندوق النقد الدولي والتي قضت برفع الدعم عن المحروقات، وأعلنت عن مرحلة جديدة في الاقتصاد السوداني في أعقاب فقدان مورد النفط بعد إعلان انفصال جنوب السودان في تموز/ يوليو 2011. لم يكن في بال الجماهير أن تغيب القوى التقليدية عن الشارع بالشكل الذي جرى. خرجت الجماهير إلى الشوارع لأول مرة في ظل حكم الإسلاميين ترفع شعار الرحيل وتم قمعها بوحشية، ولما كان محيط السودان الجغرافي ثائراً آنذاك فيما سُمي بـ "الربيع العربي" كانت الحكومة مهيأة لإطفاء هذه الشرارة مهما كلف الثمن وهي تعلم تماماً أن أسبابها مكتملة، فيما كانت الأحزاب السياسية (اليمينية واليسارية) تقف متفرجة، وربما مترددة من تحمّل هذه المسؤولية العظيمة. لم تتخذ هذه القوى أي موقف تجاه الاحتجاجات باستثناء بيانات الإدانة والتنديد، ولم تخرج إلى الشوارع لتقودها وانطفأت الشرارة بسبب غياب القيادة وانعدام التنظيم.

غابت القوى التقليدية عن الشارع في انتفاضة أيلول/سبتمبر 2013. هذه المرة كانت الحاجة ملحة إلى قيادة تسوق الشرارة إلى أهدافها الكلية. استثمر "تجمع المهنيين" هذه الحاجة ووظفها كما ينبغي، وحصد في وقت وجيز ثقة هائلة من الشارع السوداني بمختلف توجهاته وطبقاته.

شكلت هذه الاحتجاجات البذرة الأولى في تراجع الثقة بين الناس والقوى السياسية التي عرّضتها احتجاجات 2013 لامتحان شعبي حقيقي. صحيح أن الشرارة انطفأت لكن المستفاد كان أهم، إذ لأول مرة يدرك الشارع حاجته الملحة إلى قيادة حديثة تفهم وتتفهم طبيعة التغيير المطلوب. احتفظ الشارع بنحو أو آخر بشرارة الاحتجاج من خلال عمل سلمي متصل ومتقطع تمثل في الوقفات الاحتجاجية والإضرابات لقطاعات مهنية مختلفة، تأتي الصحافة على رأسها، لِما كانت تتعرض له دائماً من مصادرات ومنع واستدعاءات أمنية، عطفاً على العمل الدؤوب الذي كانت تقوم به "لجنة الأطباء المركزية". ويحفظ التاريخ الحديث للسودان دوراً بارزاً لقطاع الأطباء في التصدي للقضايا الوطنية الكبرى.

استمرار سياسات صندوق النقد واتساع دائرة الغضب

استمرت حكومة البشير في تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي، وبدأت برفع تدريجي للدعم عن عدد من السلع الرئيسية. في عام 2016 أعلنت الحكومة عن رفع تدريجي عن دعم الدواء، ما ترتب عليه وقتها زيادةً بنسبة 30 في المئة في أسعاره. بدأت أصوات متفرقة في مواقع التواصل الاجتماعي تدعو لعصيان مدني شامل. كانت الاستجابة مذهلة للجميع، فنفّذ السودانيون عصياناً مدنياً لمدة يومين، كان اختباراً مهما لجس نبض الشارع الذي كان فيما يبدو جاهزاً.

ومع استمرار الحكومة في سياساتها الاقتصادية، وامتناعها العنيد عن محاصرة الفساد الذي أصبح أبرز سمات النظام الحاكم، ووفقاً لمنظمة محلية، فإن حجم الأموال المهدرة بلغ 18 مليار دولار، وعجزت حكومة البشير عن خلق سياسات بديلة وسط تراجع مريع لقطاعات الإنتاج، وتوقف بعضها بالكامل، وارتفاع مستوى التضخم الذي قارب الـ 70 في المئة بعد النصف الأول من العام 2018، وفقدان العملة المحلية قيمتها، لم يكن من خيار غير الانفجار الشعبي، والذي بدأ فعلياً بعد إعلان الحكومة نيتها رفع الدعم عن القمح والدواء وانتهى بسقوط البشير.

استمرت حكومة البشير في تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي، وبدأت برفع تدريجي للدعم عن عدد من السلع الرئيسية. في عام 2016 أعلنت الحكومة عن رفع تدريجي عن دعم الدواء، ما ترتب عليه وقتها زيادةً بنسبة 30 في المئة في أسعاره. بدأت أصوات متفرقة في مواقع التواصل الاجتماعي تدعو لعصيان مدني شامل.

حجم الأموال المهدرة بلغ 18 مليار دولار، وعجزت حكومة البشير عن خلق سياسات بديلة وسط تراجع مريع لقطاعات الإنتاج، وتوقف بعضها بالكامل، وارتفاع مستوى التضخم الذي قارب الـ 70 في المئة بعد النصف الأول من العام 2018، وفقدان العملة المحلية قيمتها.

وعلى الرغم من أن شرارة "احتجاجات ديسمبر" فجرها الوضع الاقتصادي الذي صاحبه انعدام أو شح في القمح والدواء والوقود، إلا أن هذه الاحتجاجات تطورت لاحقاً إلى ثورة شاملة رفعت شعارات تغيير جذري، وفرضت فرز صفوف حاد في المجتمع، وحتى وسط الأسرة الواحدة. وكان مدهشاً مشاركة أبناء قيادات النظام في الحراك الشعبي، ونشط بعضهم في توجيه النقد واللوم العلني لآبائهم، عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ولأن الشباب (18 – 30 عاماً) هم الأغلبية الساحقة في الشارع، كانت آلة "مواقع التواصل الاجتماعي" هي إعلام الثورة الذي لا حاجة معه لإعلام تقليدي تسيطر عليه الحكومة بشكل شبه كامل. فعلياً لم يكن هناك حاجة إلى أكثر من مبلغ زهيد لتنشيط خدمات الإنترنت وهاتف ذكي وبعض التشبيك والتنسيق بين المجموعات المحلية التي أسمت نفسها "لجان المقاومة" ونشأت أساساً مع احتجاجات أيلول/ سبتمبر 2013. كانت هذه البساطة هي سلاح الثورة الذي انتصر أمام آلة قتل بُنيت على مدى ثلاثين عاماً بنحو 70 في المئة من ميزانية الدولة على حساب الخدمات الأساسية، من صحة، وتعليم، ومياه، وسكن.

المهنيون والنساء يتقدمون الصفوف

مع السلمية التي شهد عليها كل العالم، كانت السمة البارزة في الاحتجاجات أنها الأوسع نطاقاً جغرافياً، إذ لم تُرصد منطقة لم يخرج مواطنوها في التظاهرات، أو على الأقل عبروا عن رغبتهم في التغيير، ومثلت الطبقة الوسطى وفوق الوسطى القوى الفعلية لهذه الاحتجاجات، وكان المهنيون والمهنيات بمختلف قطاعاتهم (أطباء، مهندسون، صحفيون، محامون، صيادلة وغيرهم) هم القوى الفاعلة في الشارع، تنظيماً وقيادة وقوى جماهيرية. وكانت هذه النقطة تمثل مصدر قلق للحكومة إذ أن الذين يخرجون إلى الشارع ليسوا فقراء، وهم يتبعون سياسة "النفس الطويل" عطفاً على البسالة أمام الرصاص بشكل لم يحظ بتفسير حتى الآن. ومن المسائل التي كانت تمثل معضلة حقيقية أمام الحكومة، أن الفتيات والنساء شكلن الدور الأبرز، إذ تتحفظ الأجهزة الأمنية والعسكرية في التعامل العنيف معهن، قبل أن يتساوى الجميع أمام آلة القمع بعد بلوغ الاحتجاجات ذروتها، نالت النساء نصيباً وافراً من الشعارات والمواكب ذات الطبيعة المطلبية المحددة، وكان كثيراً ما تخرج مواكب وتظاهرات من العنصر النسائي الخالص، وحينما أدركت الأجهزة الأمنية أن تقدم النساء للصفوف الأمامية يصعب معه التعامل الميداني قررت اتباع أقذر الأساليب، فتعرضت الكثير من الفتيات والنساء إلى تحرش منظم خلال عمليات الاعتقال والملاحقة، فيما يبدو أنه كان أحد الأسلحة التي قررت الأجهزة الأمنية عبرها الحد من مشاركة النساء.

لم تكن هناك نسبة مؤكدة لحجم مشاركة النساء في الاحتجاجات والثورة، لكن قُدرت ما بين الثلث إلى النصف، وتلتف كل القوى الفاعلة في الثورة في جسمي "تجمع المهنيين" و"لجان المقاومة" وهي لجان تشكلت داخل الأحياء، ولعبت الدور الأبرز في قيادة المواكب واستمراريتها والاحتفاظ بجذوة الثورة حتى اللحظة، إذ لا ينتمي الكثير من شباب وشابات لجان مقاومة الأحياء إلى أجسام نقابية ولا قوًى حزبية، وهو الأمر الذي جعلها عرضة للاستقطاب والاستمالة من كل جهة. ولأن ليس لها كبيرٌ إلا الثورة فالجميع يهابها ويحاول كسب رضاها من جهة، ويجتهد في استقطابها من جهة أخرى، وعلى أقل تقدير فإن النتيجة المطلوبة هو تحييدها.

الشباب هم الأغلبية الساحقة في الشارع، ولذا كانت مواقع التواصل الاجتماعي هي إعلام الثورة. يكفي مبلغ زهيد لخدمات الإنترنت، وهاتف ذكي، وبعض التشبيك بين المجموعات المحلية، "لجان المقاومة"، التي نشأت مع احتجاجات أيلول/ سبتمبر 2013. كانت هذه البساطة هي سلاح الثورة الذي انتصر أمام آلة قتل بُنيت على مدى ثلاثين عاماً بنحو 70 في المئة من ميزانية الدولة.

كثيراً ما تخرج مواكب وتظاهرات من العنصر النسائي الخالص. وتتحفظ الأجهزة الأمنية والعسكرية في التعامل العنيف مع النساء، قبل أن يتساوى الجميع أمام آلة القمع بعد بلوغ الاحتجاجات ذروتها. وحينما أدركت الأجهزة الأمنية أن تقدم النساء للصفوف الأمامية يصعِّب التعامل الميداني قررت اتباع أقذر الأساليب،. وقُدرت مشاركة النساء ما بين الثلث إلى النصف من المتظاهرين.

رفعت "ثورة ديسمبر" شعارات عديدة، خاطبت جميعها حاجة السودانيين في كل البقاع إلى التغيير الجذري، شعار "حرية، سلام وعدالة" كان الشعار الرئيسي وإن كان لا يحتاج إلى تفصيل، إلا أن القضايا المطلبية المتراكمة عند السودانيين فرضت تنوعاً كبيراً في الشعارات والهتافات والمطالب، أبرزها قضايا الحرب والسلام، العنصرية، ووجد ضحايا الحرب والتعذيب في معتقلات النظام حظاً من الخصوصية، وبالضرورة فإن الحقوق الاقتصادية كانت حاضرة بالقوة ذاتها التي فجرت الثورة.

قاد الثنائي، "لجان المقاومة" و"تجمع المهنيين" الثورة إلى نهايتها، وكانت الأحزاب السياسية مشاركة بدرجات متفاوتة لكنها لم تكن الفاعل الرئيسي، وإن كانت عضوية "تجمع المهنيين" هم شباب الأحزاب أصلاً، إلا أنهم أدركوا أهمية الواجهة المستقلة وضرورة الحفاظ عليها، على أقل درجة من تغوّل الأحزاب. لكن يبدو أن الأمر عسيرٌ في الواقع، إذ تصاعدت الخلافات داخل تجمع المهنيين ما أدى إلى انقسامه إلى كتلتين، واحدة تدعم الحكومة، وأخرى تميل إلى العمل سوياً مع لجان المقاومة في التصعيد المستمر والضغط على الحكومة لإنجاز مطالب الثورة، رافعة شعار تصحيح مسار الثورة.

وعلى الرغم من أن المنتظر من تجمع المهنيين الانصرافُ إلى معركة بناء النقابات التي خربتها سنوات حكم البشير، إلا أنه انخرط في أتون صراعات القوى التقليدية، وهذا يعود لطبيعة تركيبة التجمع المشكّلة أساساً من شباب منتمين إلى أحزاب سياسية هي في الأصل عضو في التحالف الحاكم ("الحرية والتغيير"). وتتنافس الأحزاب في السيطرة على التجمع وتحديد وجهته وفقاً للمطلوب وللأجندات الحزبية. غير أن التجمع نفسه تراجعت شعبيته بعد إنجاز سقوط النظام وتشكيل الحكومة الانتقالية، فيما صعدت إلى المشهد منظمات المجتمع المدني التي يسيطر أعضاؤها على مكتب رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك.

لجان المقاومة" تشكلت داخل الأحياء، ولعبت الدور الأبرز في قيادة المواكب واستمراريتها والاحتفاظ بجذوة الثورة حتى اللحظة. لا ينتمي الكثير من شباب وشابات لجان مقاومة الأحياء إلى أجسام نقابية ولا قوًى حزبية، وهو الأمر الذي جعلها عرضة لمحاولات الاستقطاب من كل جهة. ولأن ليس لها كبيرٌ إلا الثورة، فالجميع يهابها.

ويتعرض مكتب رئيس الوزراء إلى انتقادات حادة من قبل بعض مكونات التحالف الحاكم الذي يعتبر أن المنظمات ذات الارتباطات المباشرة بالمجتمع الدولي وسياساته أحكمت قبضتها على مكتب رئيس الوزراء، وأنه بات يعمل بمعزل عن حاضنته السياسية.

الأحزاب في امتحان العمل الحقيقي بعد الثورة

منذ سقوط البشير تنسُّمِ السودانيين للحرية، لم يُرصد لأي حزب نشاطٌ سياسي جماهيري على الرغم من الحريات السياسية اللامحدودة التي وفرتها الثورة. ولا ترغب الأحزاب في نقاش قضية الانتخابات، ولا يظهر عليها أقل اهتمام بالعملية الانتخابية حتى على مستوى المؤتمرات العامة للأحزاب التي تُنتخب فيها قياداتٌ جديدة، وتكتفي وهي الحاضنة السياسية للحكومة، ببيانات المطالبة أو المباركة أو الرفض. وتتشكل هذه الحاضنة من أحزاب، أبرزها "الأمة القومي" ذو أساس طائفي، و"التجمع الاتحادي" وهو مجموعة شباب ضاقت بهم أطر "الحزب الاتحادي" وهو حزب وسطي، والأحزاب اليسارية: الحزب الشيوعي، حزب البعث، المؤتمر السوداني. وقد كشفت فترة ما بعد "ثورة ديسمبر" الحاجة الشديدة لثورة داخل الأحزاب تُمكّنها من مواكبة التغيير. هذه الأحزاب تعرضت لعملية تجريف واسعة خلال سنوات البشير أقعدتها عن دورها وفاعليتها، إلا أن الواقع الآن يوضح بجلاء أن الأزمة تكمن في العقلية المتحكمة في هذه الأحزاب، والتي ترفض على الدوام أصوات التغيير. ومن المهم الإشارة إلى تعدد الواجهات القبلية والجهوية طوال سنوات الحكومة السابقة، ما يفسره البعض بأنه تعبير صارخ عن غياب الأحزاب عن العمل السياسي القائم على البرامج والخطط الواضحة.

ويعتقد الشفيع خضر، وهو شيوعي قادهُ الجهر بالإصلاح إلى خارج الحزب مفصولاً، أن عجز الأحزاب هو واحد من أسباب "الحلقة الشريرة"، التي يفسرها بمتوالية "ثورة، انقلاب، ثورة، انقلاب". وهذا العجز لا يعني أن هذه الأحزاب انتهت، لكنها غير قادرة على الإجابة على الأسئلة الرئيسية المطروحة منذ استقلال السودان في 1956. وأبرز هذه الأسئلة في نظره، شكل الدولة وشكل الحكم، توزيع الموارد وهوية الدولة.

عطفاً على ذلك، فإن الأحزاب عجزت عن التجديد: تجديد الخطاب وتجديد القيادة، بينما تطورت جماهير هذه الأحزاب مع الثورة التكنولوجية الهائلة، فلم يعد الجمهور ينتظر الزعيم ليخبره ماذا يجري حوله، وهذا ليس بعيداً عن "صراع المجايلة". الأحزاب لعبت دوراً في التغيير، لكن ليس لتلك الدرجة التي يمكنها الإطاحة بالنظام، والحقيقة أن الجماهير قفزت فوق القيادة وأنجزت التغيير. ويرفض الشفيع الأصوات التي تنادي بتحول "لجان المقاومة" أو "تجمع المهنيين" إلى أحزاب سياسية.

عجزت الأحزاب عن التجديد: تجديد الخطاب وتجديد القيادة، بينما تطورت جماهير هذه الأحزاب مع الثورة التكنولوجية الهائلة، فلم يعد الجمهور ينتظر الزعيم ليخبره ماذا يجري حوله. لعبت الأحزاب دوراً في التغيير، لكن ليس لدرجة يمكنها الإطاحة بالنظام، فقفزت الجماهير فوق القيادة وأنجزت التغيير.

ومنذ وقت باكر، كانت المبادرات الشبابية تحصد جماهيرية وثقة الشارع، وتعرّي القوى التقليدية وتبيّن عجزها. ويُذكر أن مبادرة "شارع الحوادث" التي حققت نجاحات مبهرة في العمل الإنساني الطوعي، بجمع التبرعات لتوفير الدواء للمرضى المحتاجين، أو إطلاق نداءات التبرع بالدم، ومبادرة "نفير" التي نفذت مشاريع طوعية لإغاثة المتضررين من السيول والفيضانات، ومبادرات "صدقات" و "مجددون"، وإن كانت السلطات الأمنية في الوقت السابق تنظر إليها باعتبارها واجهات عمل تنظيمي للحزب الشيوعي، إلا أن لا أحداً ينكر ما قامت به، وأنها تفوقت على الحكومة والمعارضة في العمل الجماهيري، وقد بذرت هذه المبادرات سيادة الشباب على مسرح العمل العام.

التصعيد مستمر!

بعد عام على تشكيل الحكومة الانتقالية، لا تزال لجان المقاومة مستمرة في التصعيد الثوري، تخرج في مواكب للتذكير بأهداف الثورة، وتذكّر بشهدائها كلما استشعرت هبوطاً ناعماً. وقد حاولت بعض الأطراف داخل الحكومة إيكال لجان المقاومة بعض المهام التنفيذية مثل مراقبة توزيع الدقيق أو ضبط الوقود المهرب وغيره من مهام السلطات المحلية، وجرت احتكاكات بينها والشارع، الأمر الذي وضعها أمام مسؤولية ليست مسؤوليتها. ويعتقد بعض القلقين على مصير لجان المقاومة أن هذه خطة خبيثة لإفراغ اللجان من دورها الثوري، وغمسها في يوميات العمل التنفيذي بلا أساس قانوني، إذ ليس من مهامها العمل التنفيذي بل حراسة الثورة، وأن تكون برلمان الشارع.

مباشرة في أعقاب التوقيع على وثائق الفترة الانتقالية، طفت إلى السطح خلافات التحالف الحاكم ("الحرية والتغيير") الذي يضم الأحزاب السياسية الرئيسية في السودان، وبعض الحركات المسلحة، علاوة على تجمع المهنيين، وقوى المجتمع المدني. تبدّت الصراعات على نحو غير مسبوق بين هذه المكونات ذات التوجهات والارتباطات المختلفة، وطفا التنافس على حصد وظائف الدولة وتقاسم حصصها، وتحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحات عراك مستمر بين منتسبي الأحزاب السياسية المكونة للتحالف الحاكم، وصعد خطاب شبابي يرفض وجود الأحزاب، ومشاركتها في الحكومة سياسياً أو تنفيذياً.

تصاعدت الخلافات داخل تجمع المهنيين ما أدى إلى انقسامه إلى كتلتين، واحدة تدعم الحكومة، وأخرى تميل إلى العمل سوياً مع لجان المقاومة في التصعيد المستمر والضغط على الحكومة لإنجاز مطالب الثورة، رافعة شعار "تصحيح مسار الثورة".

بعد عام من توقيع الوثيقة الدستورية، يستفيق الشارع السوداني على أن ما اتفقت عليه القوى السياسية طوال السنوات الماضية هو فقط إسقاط النظام. غاب برنامج الحكم، وغابت الخطة الاقتصادية الواضحة، وغابت الرؤية لعملية السلام ووقف الحرب، وانغمست الحكومة بشكل كامل في العمل اليومي. جدير بالإشارة أن طبيعة التغيير التي تمت بين قوى مدنية مختلفة الأهداف والتوجهات، وبعض العسكريين فرضت ارتفاع متاريس وظهور عقبات عاتية تحول الآن، فيما يبدو، دون إحداث تغيير حقيقي، أو على أقل تقدير تحقيق الحد الأدنى من مطالب الثورة الملحة، والتي تفجرت بالأساس لأسباب لا تزال قائمة بل تتعمق يوماً بعد يوم.

فقد واصلت "حكومة الثورة" في تجريب المجرب، في تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي والتي بدأها الرئيس المخلوع، وكانت السبب المباشر والرئيسي في الانتفاضة ضد نظامه، علاوة على أنها أثبتت عدم جدواها. ويجري الآن الرفع التدريجي لأسعار المحروقات، فيما لا يزال ما قيمته 82 في المئة من المال العام خارج ولاية وزارة المالية التي تسيطر فقط على 18 في المئة منه وفقاً لحديث رئيس الوزراء مؤخراً. ولا يبدو أن هناك حزب أو كيان قدّم برنامجاً اقتصادياً بديلاً لسياسات صندوق النقد الدولي، باستثناء الحزب الشيوعي، ولكنه يكتفي بالتنديد والرفض المستمر، ولم يُعلن حتى الآن عن خطة أو برنامج اقتصادي واضح الملامح بالنسبة للحكومة الانتقالية. ويتلاءم رئيس الوزراء مع حاضنته السياسية في غياب الرؤية والبرنامج. وفيما يتعلق بملف العدالة، فلا يزال رموز النظام السابق في السجون بلا محاكمات باستثناء جلسات محدودة بدأت بشأن بلاغ انقلاب 1989، ولا يزال ضحايا الحرب في دارفور يطالبون بتسليم المخلوع إلى المحكمة الجنائية الدولية!

هذا الوضع الذي يفرض سؤال "لماذا ثُرنا" يُفسَر باتجاهين: طبيعة الوثيقة الدستورية التي تم التوقيع عليها قادت إلى شريكين في الحكم، شريك عسكري لديه امتيازات واسعة يريد الحفاظ عليها عبر آلية السلطة الجديدة، إضافة لما يبدو أنها التزامات تجاه النظام السابق بعدم المساس برموزه ومصالحهم، وشريك مدني منقسم على نفسه ما بين "التغيير الجذري" و"التغيير الشكلاني.

بذرت المبادرات سيادة الشباب على مسرح العمل العام: مبادرة "شارع الحوادث" حققت نجاحات مبهرة في العمل الإنساني الطوعي، بجمع التبرعات لتوفير الدواء للمرضى المحتاجين، أو إطلاق نداءات التبرع بالدم، ومبادرة "نفير" التي نفذت مشاريع طوعية لإغاثة المتضررين من السيول والفيضانات، ومبادرات "صدقات" و "مجددون"...

يفرض الوضع سؤال "لماذا ثُرنا"، الذي يُفسَر باتجاهين: طبيعة الوثيقة الدستورية التي تم التوقيع عليها قادت إلى شريكين في الحكم، شريك عسكري لديه امتيازات واسعة يريد الحفاظ عليها عبر آلية السلطة الجديدة، إضافة لما يبدو أنها التزامات تجاه النظام السابق بعدم المساس برموزه ومصالحهم، وشريك مدني منقسم على نفسه ما بين "التغيير الجذري" و"التغيير الشكلاني".

الحقيقة الماثلة هي أن إسقاط النظام هو الخطوة الأسهل في طريق التغيير الطويل الذي يحتاج إلى برنامج وخطط ورؤى واضحة لا لبس فيها، وهذا لن يتأتى إلا بوجود أحزاب وكيانات قادرة على استيعاب ما جرى.

ومع كل تعثر وخيبة، يحلو للثوريين في مواقع التواصل الاجتماعي الاستشهاد بمقولة أحد أيقونات الثورة الذي حصدته آلة القمع في محيط اعتصام القيادة العامة، الشهيد كشة الذي كان يرفع لافتة مكتوب عليها "نخشى على ثورتنا من النُخب".

Connexion utilisateur

CAPTCHA
Cette question sert à vérifier si vous êtes un visiteur humain afin d'éviter les soumissions automatisées spam.