التقيت هذا الرجل أول مرة بمترو باريس المتوجه إلى "مونتروي" (Montreuil) المجاورة للحدود الجنوبية لمدينة السينما والفن. جلس مقابلا لي في صدفة الزحام. ابتسمت في وجهه وسلمت عليه فرد حذرا بلطف.
عرّفته على السينما التي كنت أحملها تحت إبطي في علبة 16ملم، وطلبت منه لقاءً مصورا لفيلم وثائقي عن السينما الأفريقية.
ذكّرته بلقاءات أخرى صورته فيها لكنها كانت متباعدة زمنيا فخانته الذاكرة. كنتُ أعرف أن الكاميرا لن تنساه وأنها ستحتفظ بوجهه. أحَب الفكرة وابتسم لها، كما رحب بفكرة الفيلم عنه ومعه، فطلب مني مشاهدة فيلم سابق للتأكد من صحة النية ومن جودة العمل.
لم يكن الإنترنت هو الواصل والموصّل في نهاية الثمانينيات، والأفلام لم تكن تشاهَد إلا بالسينما أو بقاعات التركيب الضخمة العتاد، التي يتوجب دفع تكاليف استعمالها الباهظة.
أعطاني رقم بيته الذي أحتفظ به إلى حد الآن، لكني لم أتمكن منذ ذلك اللقاء من رؤيته. جاءني خبر تدهور صحته في الشهر الثاني من هذا العام 2019، فأخبرت مهرجان "فيسباكو" (Fespaco) ببوركينا فاسو الذي كان سينعقد في نفس الشهر واقترحت تكريما له قبل أن يفوت الأوان.
لم يستجب المهرجان ولا أي صحفي أفريقي لهذا الطلب. فهل نحن الأفارقة والعرب نفضل تكريم الأموات ولا نحتفي بمبدعينا ومثقفينا وهم أحياء؟
قاوم المرض شهرا ثم توفي الرجل الجميل في الشهر الثالث في يومه الثاني وحيدا بباريس بعيدا عن أضواء المدينة.
صورة بورتريه لمحمد هوندو
احذر السينما الفرنسية.. وصية من خبير
بالمترو قال لي: احذر من السينما في فرنسا والغرب عامة، سيسترضونك إن غضبت، وسيرفعونك في محافلهم طالما وجودك يخدم مصلحة معينة، وعندما تعتقد أنك وصلت يُسحب البساط من تحت قدميك فجأة ويتوقف رنين الهاتف ولن تتمكن من الاتصال بمن كانوا يتباهون برفقتك لأن سكرتيراتهم سيتفنن في إيجاد حجج مصطنعة لغياب من تطلُب كل مرة. مع الزمن اكتشفتُ أن هذا يحدث أيضا في السينما العربية وليس فقط مع الأفارقة والعرب بفرنسا فقط.
كان يبرر علاقته بالإخراج في الستينيات على النحو التالي: لم أفهم لماذا كنت غائبا في كل شاشات العالم أفريقيا وعربيا، لا أثر لوجوه إيجابية أفريقية بالسينما، فقررت أن أملاء هذا الفراغ.
لقد ترك فراغا كبير الآن بعد رحيله لأنه آخر المقاومين بلسان حاد وشجاعة فكرية في قول كلمة الحق، فكيف تم نسيان هذا الرجل أو تناسيه حتى من طرف أهله؛ أي من طرف محافل العرب والأفارقة؟
هل توجد قائمة سوداء لكل من يخرج عن السرب؟ هل يتم عزل الثائر والمتفرد فنيا بشكل ممنهج حتى في بلده؟
ما هو دور التمويلات الغربية في مهرجانات أفريقيا والبلاد العربية؟ هل يوجد فعلا مهرجان عربي وأفريقي هام دون تمويل غربي؟ لماذا كل هذا الحب للسينما العربية والأفريقية من طرف اللوبيات الغربية؟ هل فعلا كل هذه التدخلات المالية لصالح سينما عربية أفريقية تخدم حرية التعبير والإبداع أم أن هذا يخدم توجها سياسيا معينا؟
كل هذه الأسئلة كانت تراود محمد هوندو طوال لقائنا بباريس.
وُلد محمد هوندو عام 1936 بموريتانيا وهاجر إلى فرنسا عام 1959 إلى مدينة مارسيليا بالتحديد، لكن قبل ذلك مر بمدينة الرباط المغربية حيث تعلم فيها فن الطبخ، ثم عمل بالميناء وبالمطاعم قبل أن يكتشف المسرح وأسماء تفتح له آفاقا ممتدة من "شكسبير" و"إيمي سزير" (Aimé Césaire).
أنجز هوندو 14 فيلما طويلا روائيا وفيلما وثائقيا واحدا هو "الساحل.. لماذا المجاعة؟" عام 1975. أما المسرح فقد وطئت قدمه الخشبة عام 1961 ممثلا ومخرجا مسرحيا، فبقي المسرح منبع إلهامه في كل أعماله.
تعرف هوندو على الممثلة القديرة فرانسواز روزاي (Françoise Rosay) التي صقلت حبه للتعبير وتبنته -حسب تعبيره- وجعلت منه ممثلا ذا حضور ملفت.
لقد كان المسرح الحل الوحيد للخروج من عتمة الحياة اليومية المضنية، كانت حوارات "كاتب ياسين" الجزائري وحبكة "بريشت" (Brecht) وثورية "إيمي سيزير" شاعر المارتينيك؛ كلها لحافا وفراشا لثوريته الباطنية.
تعلم الموريتاني بسرعة ولم يخش من تأسيس فرقته المسرحية الشخصية عام 1966، فاستعمل نصوص "دانيال بوكمان" (Daniel Boukman) الذي كتب أول مسرحية للتنديد بالاحتلال الفلسطيني.
غير أن الحدث الحاسم الذي فتح له حدقةً يرى من خلالها العالم بقية حياته؛ هو دوره في فيلم لـ "كوستا غفراس" (Costa Gavras) الفرنسي اليوناني الأصل عام 1966، وفي العام نفسه فيلم "مذكر مؤنث" (Masculin Féminin) لـ "غودار "(Godard)، ثم مثَّل مع المخرج الأمريكي "جون هوستن" (John Huston) عام 1969 في فيلم "نزهة مع الحياة والموت" (Walk with Love and Death).
وفي نفس العام قام بكتابة وإخراج فيلمه الأول "آه يا شمس" (Soleil O). وقد لاقى نجاحا كبيرا، لكن بعد عرضه بمهرجان كان بمسابقة أسبوع النقاد عام 1970 ونيله عدة جوائز بمهرجانات أخرى منها الفهد الذهبي لمهرجان لوكارنو؛ منع الفيلم بعد ذلك في بلدان عدة.
يقول محمد هوندو: المقاومة أهم شيء في الإنسان. لا يجب للمرء أن يَهِن حتى لا يسهل الهوان عليه.